Tuesday, March 26, 2013

بين حواري الذكريات (1)... محمد ومصطفى

كانت أجازة الصيف كل عام عبارة عن زيارة للوطن، لمصر، ننتظرها بفارغ الصبر طول العام، وكان أجمل ما فيها هو تلك الزيارة إلى بيت جدي وجدتي في القاهرة.
كنا نسكن في الزقازيق، تلك المدينة الهادئة الجميلة، لكني لم أرتبط عاطفيا بها بسبب أنني لم يكن لي فيها أي أصدقاء يمكن أن ألعب معهم، والصداقة واللعب في حياتي كالماء والهواء اللذين لا أستطيع العيش بدونهما.
كنت أترقب اليوم الذي نسافر فيه إلى القاهرة، حيث بيت جدي، ونجح جو الأسرة في إتاحة فرصة أكبر لي للانطلاق بعيدا عن متابعة الأهل الصارمة، فنجحت في التعرف عليهما حيث كانا يقيمان في أحد الطوابق بالبناية التي يقيم بها جدي.
محمد ومصطفى أخوين، كان أحدهما يكبر الآخر بعام واحد، تماما مثلي أنا وأخي "أمير" تعرفنا عليهما في سن السابعة أو الثامنة وكنا في نفس العمر تقريبا، لعبنا معا الكرة في الشوارع نهارا أمام البناية التي نقيم فيها، وبقية الألعاب الأخرى مساء، "مساكة الملك"، "كهربا"، "استغماية"، "بنك الحظ"، "السبع طوبات"، وغيرها كثيييير من الألعاب التي يعرفها الأطفال جيدا، كنت أحرص على ضرورة اللعب مهما كانت العوائق، فإذا لم يتوفر لي ملابس للعب لعبت بالملابس الرسمية، وأحيانا بملابس لا تصلح للعب أساسا كالجلباب، لعبت حتى حافيا! ما كنت أدخل البيت إلا مساء مباشرة إلى الحمام لإزالة آثار اللعب العميقة من على جسدي المتهالك.
ظلت زيارة جدي وجدتي هي الحدث الأهم في الأجازة حتى نلتقي بهما، رغم أن ذلك اللقاء لا يستمر عادة أكثر من بضعة أيام لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة!
كبرنا سويا، وبدأنا نتعرض لتغيرات الزمن، بعض الرفاق الآخرين بدأ يتصاحب على الفتيات ويعاكسهن، والبعض الآخر بدأ يدخن السجائر، أما نحن فكنا نتعاهد على ضرورة عدم الاختلاط بالآخرين في تلك الممارسات التي كنا نرفضها، لا مانع من أن تربطنا علاقة بأي أحد لكن لا نفعل مثلهم.
وفي يوم من الأيام تحقق حلم من أحلام حياتي بالانتقال للعيش في القاهرة، وفي الشارع المجاور للشارع الذي يسكن فيه جدي وجدتي، أي أنني سأكون بجوار محمد ومصطفى، أصدقائي الأعزاء، أخيرا سيمكنني اللعب مع أصدقائي يوميا.
لم أشعر بالزمن، ولم أنتبه إلى أننا كنا جميعا قد تجاوزنا مرحلة الطفولة.
لم أعد اقابلهما كثيرا، لم تعد تتوفر لي الفرصة للعب في الشارع كما كنت قبل أن أنتقل إلى القاهرة، ما عاد هناك بالشارع سوى جيل جديد من الأطفال ممن لا يليق بأعمارنا أن نلعب معهم.
حتى محمد ومصطفى تغيرا كثيرا، وانحرفت اهتماماتهما كثيرا عن اهتمامات الطفولة، صارا مدخنين شرهين، لم أعد أقابلهما سوى صدفة كل بضعة شهور.
هكذا هي أحلامنا، ترهقنا كثيرا قبل أن ننجح في تحقيقها وتستغرق منا الوقت والمجهود، فإذا أدركناها، فقدناها، لا لشيء سوى لأن الزمن لا يظل على حاله.
والآن صرت أحن كثيرا إلى "الزقازيق"، كلما ذهبت إلى هناك تمنيت أنني ما خرجت منها يوما، فكم هي جميلة وهادئة، كم أشتاق أن أزور الشارع الذي كنت أسكن فيه، وأن آكل السندوتشات الساخنة على عربة الفول التي كانت تقف على الناصية، ومحل عصير القصب بالعصارة اليدوية الذي كان يقع على الناصية المقابلة من الشارع، كم أشتاق لركوب "الحنطور" الذي كان الوسيلة الرئيسية للتنقل داخل الزقازيق وانقرض مع الوقت، حتى أنني كثيرا ما كنت أزور الكورنيش هناك خلال الأعوام الأخيرة وأستمتع بجوه الساحر الهادئ، ولكن يبدو أنني ما عرفت قيمة تلك المدينة إلا متأخرا...
جدا.

9 comments:

  1. الزقازيق مدينة جميلة وساحرة مثل كل محافظة الشرقية :)

    ما اجمل ذكريات الطفولة لكن عندما نكبر نشعر ان الشيب دب فى ايام تلك الذكريات واصابها الوهن عندما ندرك ان الاشخاص الذين شاركونا اياها تغيروا وتبدلت صفاتهم مع العمر والسنين وتظل تئن بداخلنا دائما بألم الحنين والاشتياق ....

    شكرا لك اخى بهاء لمشاركتنا ذكرياتك الطيبة وتعرفنا خلالها على جانب من حياتك الخاصة

    تحياتى لك بحجم السماء

    ReplyDelete
  2. زكريات جميلة .. لمست شئ بداخلى ..(الطفولة .. استغماية .. بنك الحظ ..).. ثم الافتراق ..
    ..هكذا هى احلامنا

    تحياتى

    ReplyDelete
  3. آه يا صديقي، إنك نكأت جراحا...
    أخذتني معك في عالم الطفولة واللعب، وتخيلت معك احساسك وشعورك اتجاه فترة الطفولة التي تحمل لك الكثير من تفاصيل الجمال والمتعة، التي من الصعب جدا استعادتها ولو عدت إلى نفس المكان الذي مارست فيه طفولتك البريئة. تلك أشياء تحس وتستعاد تذكرة فقط، ولا يعاد تمثيلها على مسرح الحياة.

    صدقت يا صاحب الحس الرفيع، قيمة اللحظة والأشياء لا تدرك حالا، بل مآلا.
    لك التحية

    ReplyDelete
  4. الأخوة الأعزاء..
    أم هريرة...
    Well...
    أبو حسام الدين...

    جزاكم الله خيرا على كلماتكم ومشاعركم الطيبة وتفاعلكم مع ما كتبت من ذكريات...
    صدقا لم أكن أتوقع أن يعتم أحد بهذه النوعية من التدوينات نظرا لأنها خاصة جدا، غير أنني أحببت أن أسجلها في مدونتي العزيزة...
    جزاكم الله كل خير

    ReplyDelete
  5. هي الذكريات الجميلة التي نسعد بتذكرها ..

    وأحيانا قد تنزف الجراح معها .. ولكنها سنة الحياة ..

    وقد يأتي زمن تصبح هذه اللحظة الحالية مجرد ذكرى طيبة .. مع مستقبل يبدو أصعب...

    لك تحياتي أخي بهاء ..

    ReplyDelete
  6. السلام عليكم و حرمة الله و بركاته
    ذكريات جميلة و أصعب ما في تذكرها عند الانتهاء من الحديث فيها تلك الابتسامة المريرة التى تظهر على وجوهنا حتى غصبا عنا..
    شكرا لحضرتك ا/ بهاء .

    ReplyDelete
  7. انت فكرتني بلعب الكورة ... أنا كنت بلعب كويس ، لكن من ساعة ما دخلت الكلية ما لمستهاش :) ... خد عندك بقى دورات و لعب في الشارع على الأراضي الفاضية .. دلوقتي عملوا ملاعب ترتان و حاجات من بتوع ولاد الذوات مالناش فيها ^^

    ReplyDelete
  8. جميل حرفك و رائع طبعك و وفاؤك لما مضى من الزمان


    شكرا

    ReplyDelete
  9. الأخوة الأعزاء...
    بندر الأسمري...
    ريهام المرشدي...
    محمد الدهيمي...
    منجي بكير...

    لم أتمالك تلك الابتسامة من أن تعلو محياي وأنا أقرأ تعليقاتكم الجميلة، فقد سعدت جدا بتفاعلكم وبقية الأصدقاء مع هذه التدوينة الشخصية التي كما ذكرت ما كنت أحسب أن يهتم بها أحد.
    ولكن يبدو أن حديث الذكريات له الكثير من الأهمية في حياتنا كثيرا، وهو ما لمسته في تعليقاتكم كلها.
    فجزاكم الله خيرا.
    تقبلوا تحياتي...

    ReplyDelete

أسعدني تشريفك، وبلا شك سيسعدني أكثر تعليقك، فلا تبخل به:)