لست من المستسلمين لليأس عادة، ومن الصعب إقناعي به، غير أن اليأس صخرة قاسية جدا، كثيرا ما تتحطم عليها آمالنا وأحلامنا، لنصطدم بعدها بحقائق مخيفة تحيطنا بها الحياة من كل جانب، وتكون النتيجة الحتمية هي انكسارات وشروخ في إيماننا بالمسلمات التي باتت تتعارض مع الواقع، بينما نتعرض لسيل من الاتهامات ممن يحيطوننا، اتهامات بأننا مفرطون في الرومانسية!
كان قد مضى على التحاقي بعملي بضعة أسابيع قليلة، كان مجال العمل ممتلئا بالغموض والتحدي ومحفزات الابتكار والبحث عن حلول لمشاكل غير تقليدية، وهو ما أظنه يتناسب تماما مع شخصيتي.
وبطبيعتي العلمية، فقد هداني تفكيري إلى الاستعانة بخبرات بعض من أساتذتي في الجامعة في حل بعض المشاكل التي قابلتها، أو الحصول على توصياتهم بطرق البحث، لذلك فقد قررت الذهاب في مأمورية إلى الجامعة لمقابلة الأساتذة ومناقشتهم.
كان قد مضى على تخرجي من الجامعة حوالي عامين فقط، ولمن لا يعرف طلبة كلية العلوم، فإنهم من النوع العشري، الذي يصعب أن تنقطع علاقتهم بجامعتهم غالبا.
صعدت إلى مكاتب الأساتذة وتناقشت مع بعضهم، غير أنني لم أصل لنتيجة مرضية، ويبدو أن الأساتذة يمكن الاستفادة منهم فقط في المحاضرات، فأخذت أدور في طرقات الكلية بحثا عن المجهول، ولكن لم يكن لليأس سبيل، إلى أن قادتني قدماي إلى أحد معامل الكيمياء، هناك حيث قابلت معيدا ممن درسوا لي أثناء دراستي بالكلية.
رحب بي، وتكلمت معه في بعض المشاكل التي جئت من أجلها، علمت أنه قد حصل على منحة دراسية وأنه يستعد للسفر قريبا للخارج لاستكمال دراسته.
استفضنا في المناقشة، وأظنه قد شعر مني بقدر من الإصرار على التعامل مع المشاكل وعدم الهروب منها، فوجدته يسألني عن مكان عملي ووظيفتي فيه، وأنهى حديثه معي بنصيحة قال أنها صادقة وأخوية، حيث طلب مني هذا المعيد أن أرحل من البلد!
وقال لي ما يفيد بأن السكة التي أسير فيها ستقودني يوما إلى الجنون إذا صممت على استكمالها، فهذا البلد لا مكان فيه للناجحين ولا لطالبي النجاح.
استقبلت كلماته باهتمام قليل حينها، ولم أكترث كثيرا بما قال.
وبعد حوالي إثني عشر عاما، أجبرتني ظروف العمل على القيام بزيارة بحثية شبيهة إلى المركز القومي للبحوث، لأقابل هناك مجموعة أخرى من الأساتذة، ولكن هناك فرق كبير بين الزيارة الأولى التي كانت بدافع شخصي وبين الزيارة الثانية التي كانت إجبارية، ولكنني في الزيارة الثانية شاهدت بعيني حقائق كثيرة تجاهلتها في الزيارة الأولى رغم أنها كانت ماثلة أمامي منذ البداية.
ترى هلى تسرب اليأس إلى نفوسنا؟ أم أننا كنا مدفوعين بثورة رومانسية ما لبثت أن هدأت لنصطدم بحقائق الأمور المخيفة؟