أتكلم اليوم عن جزء من رحلتي، وهو الجزء الذي ترك في ذاكرتي أكبر أثر، وحفر في عقلي مشهدا يصعب أن أنساه، وذلك على الرغم من أن هذا الجزء من الرحلة جاء محشورا في يوم مشحون بالمواقف والمشاهدات، وعلى الرغم من أنه لم يكن البداية، ولكنه الأهم، فأنا هنا أكسر قاعدة التسلسل وأحقق قاعدة الأهمية.
ذلك الجزء يبدأ في يوم العطلة الأسبوعية الوحيدة التي حصلت عليه خلال رحلتي، والتي انطلقت فيها أنا وزميلي في صحبة السيد/ ماتياس صاحب العمل الذي كنا منتدبين لديه، وكان جدول الرحلة مزدحما جدا كما ذكرت آنفا، ولكنني هنا أتوقف عند ساعة مرت علينا جميعا، ونحن في سيارته ننطلق داخل مدينة بريجينز، من منطقة فيندر الجبلية المطلة على بحيرة كونستانتس ومدينة بريجينز إلى قلب مدينة بريجينز وكان الوقت قبل العصر بحوالي ساعة، وحينها دار بيني وبين زميلي المهندس/ أحمد سالمان حوار صغير حول أننا إذا استمرت الرحلة بنا فلن نقوم بأداء صلاة الظهر، ويجب علينا أن نبحث عن طريقة ومكان نؤدي فيه الصلاة قبل أن يحين موعد العصر.وأخرج هنا من الموضوع الرئيسي لهذه المدونة لأتحدث عن الصعوبات التي يواجهها المسلم في بلد غربي متحضر مثل سويسرا قبل أن يفكر في أداء الصلاة، فالطهارة هناك أمر غير مألوف، والمراحيض العامة أو حتى الموجودة في غرف الفنادق التي نقيم بها غير مزودة بالمياه، مما يجعل التطهر أمرا خاصا جدا، ويجب على من يحاول الاحتفاظ بطهارته وطهارة ملابسه أن يتخذ اجراءات غير تقليدية يصعب تنفيذها إلا في حمامات خاصة يتوفر بها المياه من أي مصدر!!، ثم يأتي بعد ذلك الوضوء، وهو يحتاج إلى مياه أيضا، وأخيرا مكان الصلاة، فهل يعقل أن نفترش الأرض في الشارع العمومي لكي نصلي في بلد مثل سويسرا أو النمسا؟
دار الحوار قصيرا بيني وبين زميلي، ووجدنا أنفسنا أمام سبيل واحد هو أن نسأل السيد/ ماتياس عن كيفية أداء الصلاة في هذا المكان، وللحقيقة، فالسيد/ ماتياس يتمتع بروح متسامحة جدا ويتقبل خصوصيات واهتمامات الآخرين بمنتهى الروعة، ونحصل منه دائما على كل احترام لعاداتنا الإسلامية والشرقية بدون أدنى مبالغة، فما كان منه إلا أن قام بالمرور على أحد أماكن الانتظار العمومية في مدينة بريجينز وقام بسؤال أحدهم عن مسجد المدينة!! وقد تفاجأت بذلك، فهل يوجد مسجد في هذا المكان؟ فما لبث السيد/ ماتياس أن أزال حيرتي ووضح لي بأن بريجينز مدينة كبيرة، وعادة ما يمكننا العثور على مسجد أو أكثر في المدن الكبيرة في أوروبا بصفة عامة، صحيح أن المساجد عندهم مختلفة في هيئتها عن مساجدنا ولكنها مساجد!! فقام الرجل بوصف الطريق إلى المسجد إلى السيد/ ماتياس، الذي قام بدوره بتغذية جهاز الملاح الموجود في سيارته بعنوانه، فأرشدنا هذا الجهاز العبقري المتصل بالأقمار الصناعية إلى المكان، وما هي إلا دقائق معدودة حتى وصلنا إلى مركز إسلامي في بريجينز!!!!
للوهلة الأولى تشعر بأن هناك شيء مختلف في المكان عما يحيطه، فالبقعة التي يوجد بها المسجد أو المركز الإسلامي محاطة بسياج جميل من الأشجار التي تحجب الرؤية عما خارجه، فلا تقع عيناك على شيء من التفلت والانحلال الأخلاقي المتوفر في شوارع المدن هناك، وداخل المركز لا تجد أي وجود للمرأة، ولست متأكدا إن كان هناك مصلى خاص للسيدات أم لا ولكن ما لاحظته هو أنني لم أبصر بعيني امرأة واحدة في المكان، فتقدمنا أنا وزميلي، فيما قرر السيد/ ماتياس أنه سيبحث عن مكان يحتسي فيه القهوة ريثما نعود.
وداخل المركز توجد ساحة لاحتساء المشروبات ومكان للجلوس والاستراحة تحت مظلات أنيقة، فقمنا بسؤال أحدهم بالإشارة عن المكان الذي يمكننا فيه الوضوء وأداء الصلاة فأشار إلى باب دخلنا منه، فإذ أمامنا مكان للوضوء ومراحيض يتوفر فيها المياه على عكس المعتاد!! نعم نحن في مسجد!!! فانطلقت أنا إلى مكان الوضوء فيما ذهب زميلي إلى الحمام وظللت أحسده على النعمة التي توفرت له، ثم بعد أن خرج من الحمام، صعدنا سويا إلى الدور العلوي الذي يوجد به مكان الصلاة، وهو دور كامل مكون من ساحة كبيرة مغطاة بالسجاد، والمكان كله تشعر أنه يأخذ الطابع التركي بشكل عام، ووجدنا رجلا مسنا يجلس ويقرأ في مصحف كبير موضوع أمامه على حامل خشبي، فتهيأنا للصلاة أنا وزميلي وبدأنا، وأثناء الركعة الثالثة أو الرابعة، لحق بنا رجل شاب، ثم سلمنا وقام هو ليكمل بقية الصلاة، والحقيقة أن المكان قد حاز مني على إعجاب وتقدير وتوقير شديد، لدرجة أنني كنت أشعر بسعادة بالغة لوجود مثل هذا المكان في قلب أوروبا، ووجدتني أصطحب زميلي معي وأذهب لكي أسلم على ذلك الشيخ المسن الذي يقرأ القرءان، وقبل أن نخرج من مكان الصلاة كان ذلك الرجل الذي صلى خلفنا قد شرع يصلي السنة الراتبة للظهر!!
وبعد أن خرجنا من المسجد وجدنا السيد/ ماتياس جالسا في الساحة التي أمام المسجد يحتسي قدحا من القهوة، فجلسنا معه قليلا ثم اصطحبنا إلى سيارته لنكمل الرحلة سويا، وأنا يغمرني شعور جارف بالسعادة والحب الشديد للمكان، بقعة للإسلام في قلب أوروبا!!
والحقيقة تبدو أن مثل هذه المراكز الإسلامية منتشرة في أوروبا، ولكن نظرا لطبيعة زياراتي والتي تكون عادة مضغوطة جدا ولا يوجد فيها الكثير من الوقت للتنزه ورؤية الجديد، وطبيعة الأماكن التي أذهب إليها حيث تكون بعيدة عن المدن الكبيرة، فلم يتسنى لي أن أستمتع بها رغم وجودها، وكم أسعدني رؤية أحدها، وكم أثر في نفسي مكان الصلاة الهادئ الذي يشع بروح إيمانية جميلة، في وسط مستنقع من اللهو والإباحية والانحلال الأخلاقي، فعلا إنها جزيرة بديعة مورقة بجميع ما يروق للنفس من أزهار وورود وكل طيب وسط محيط من الفساد الأخلاقي، وكم أتمنى أن أذهب إلى هناك يوما فأجد تلك الجزية الصغيرة قد امتدت وتباعدت وانتشرت لتشمل كل القارة الأوروبية بل كل هذه الأرض، وليس ذلك على الله بعزيز.
No comments:
Post a Comment
أسعدني تشريفك، وبلا شك سيسعدني أكثر تعليقك، فلا تبخل به:)