استقبلته كعادتها وكعادة كل النساء المحبات لأزواجهن، كثير من الأشواق، وكثير من كلمات الترحيب، اصطحبته إلى الأريكة، ثم بدأت في ممارسة هوايتها المفضلة.
حكت له عن كل شيء، المهم وغير المهم، الصغيرة والكبيرة، مضى بعض الوقت وهو يصغي إلى كلامها باهتمام شديد، لم يوحي لها أنه غير مهتم بكل تلك الحوارات والمواضيع التي تتكلم فيها، كان مدركا أن هذه طبيعتها وطبيعة أغلب النساء، وهو يتعامل معها بكل حضارة ورقي.
كان رجلا يفهم طبيعة زوجته ويقدر احتياجاتها ويحترمها، حتى ولو كان ذلك على حساب جزء من راحته، ذلك دأبهما كل يوم، يعود من عمله، تستقبله، تتكلم وتتكلم، ثم تبدأ في إعداد طعام الغداء، ولكن على الرغم من ذلك فقد كانت تهتم به وبشؤونه، وتضعه تاجا فوق رأسها.
ظل الحال كذلك لسنوات طويلة، لم يتذمر مرة واحدة، ولم تشعر هي أبدا أنه قد يكون جائعا عندما يعود من العمل، ولكنه كان يستمتع بها وهي تحادثه كالأطفال عندما يعودون إلى أهلهم من المدرسة.
جلست على الأريكة بتثاقل، طأطأت رأسها قليلا، ثم عادت لترفعها، نظرت إلى الصورة المعلقة على الجدار، إنها صورته وعليها شريط أسود، شردت بخيالها في الصورة، وبدأت ذكريات الماضي الجميلة تتقافز إلى ذاكرتها، لم تلتفت، ظل بصرها معلقا بالصورة لعدة ساعات، كانت بحاجة أن تتكلم، مع أي أحد، فلم تجد سوى تلك الصورة، كم سمع صاحبها كلامها، فهل تسمعها صورته؟
وفجأة، دق جرس الباب.
قفزت من مكانها كشابة في العشرينيات، متناسية سنوات عمرها الستينية، قفزت كما كانت تفعل منذ سنوات طويلة جدا، عندما كان يدق جرس الباب فتسرع واثبة لتستقبل زوجها.
فتحت الباب بسرعة لتجد بواب العمارة يسألها عما إذا كانت تريد شيئا.
أطرقت قليلا، تلألأت دمعتين من مقلتيها، ثم سألته: "كم الساعة؟" فأجابها البواب: "السابعة"، كان قد مر من الوقت أكثر من أربع ساعات وهي تطالع صورة زوجها المتوفي، عادت لأريكتها فوجدتها مبللة بدموع لم تشعر بنزولها.
شعرت بوخز شديد في جميع مفاصل جسدها، ما كان لها أن تقفز بهذه الصورة في هذه السن، ولكنه الشوق.
قررت أن تغير صوت جرس الباب، لعلها تتفادى حدوث مثل تلك القفزة اللا إرادية في الأيام القادمة، ولكن هيهات.
تغير صوت جرس الباب، ولكن لم تتغير دقات قلبها.
صارت أمام خيارين، إما أن تتحمل ألام مفاصلها التي تئن من تلك القفزات اللا إرادية، وإما أن تقوم بتغيير قلبها.
اختيار صعب كتير لكن لابد منه لتستمر الحياة كما قدرها الله تعالى وسنها فى خلقه
ReplyDeleteقصة رقيقة الاحساس رغم مافيها من شجن فكثيرا ما اشعر بشىء من حزن او لا اعرف ما اسميه من شعور كلما نظرت لامرأة عجوز ورجل مسن ...الحياة تملأ قلبهم لكن القلب يأبى ان يطاوعهم
بارك الله فيك اخى بهاء
واشكرك ايضاً على سؤالك عنى جزاك الله خيرا
اليوم اشعر بتحسن كثيرا الحمد لله تعالى
اشكرك وكل من سأل عنى
دام الله الاخوة والود بين كل المسلمين
تحياتى وتقديرى
فللفراق الامه
ReplyDeleteوللعمر ذكريات لاتنسي
وللعلاقات الآنسانية لحظات لاندرك قيمتها الا بفقدانها
تحيتي اخي
أعجبني الدمج -البرزخ- بين الزمنين، بالكاد يكتشفه القارئ بعد قراءة ثانية متأنية..مع الوقوف على فعل كان.
ReplyDeleteحياة من الوفاء والحب تستمر ولا تعترف بالزمن.
تحياتي
السلام عليكم
ReplyDeleteجميلة ومؤلمة جدًا هذه القصة...وأرى منها فى الواقع.
الجانب المشــرق فيها هو ذلك الحب الذى صمد طيلة هذه السنوات...جميل ذلك الوفاء.
وبالطبع لا ألم مثل ألم الفراق.
أعجبتنى طريقة الكتابة جدًا..ما شاء الله.
الأخت العزيزة/ ليلى الصباحي..
ReplyDeleteجزاك الله خيرا على كلماتك الطيبة.
هذه القصة أحاول فيها أن ألفت الانتباه إلى ضرورة مراعاة أن الزمن يجري، فلنحاول أن نقتنص منه كل لحظة سعيدة، قبل أن يباغتنا بحال نراه أمام عيوننا ونحسبه بعيدا.
سعدت كثيرا بأخبار تحسن صحتك، أسمعنا الله عنك كل خير.
تقبلي تحياتي..
أخي الغالي/ سواح في ملك الله..
ReplyDeleteللحظات الفراق صدى عميق في نفس كل من يقف على تقلبات الحياة.
تقبل تحياتي..
أخي الغالي/ عبدالعاطي طبطوب..
ReplyDeleteهذا (البرزخ) الذي أشرت إليه يمثل المفصل الأساسي الذي بنيت عليه القصة، وقد كنت أتمنى أن يكون أكثر اختفاء مما هو عليه ولكن أعتقد أنني لو فعلت لكان دوره سلبيا.
هي تجربة أتمنى أن أكون قد نجحت فيها.
تقبل تحياتي..
الأخت الفاضلة/ حبيبة...
ReplyDeleteصدقت في قولك: "لا ألم مثل ألم الفراق"..
شهادتك لي بشأن طريقة الكتابة (الأسلوب) هي شهادة أعتز بها وأقدرها.
جزاك الله خيرا...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ReplyDeleteأقف دائماً ضعيفة أمام الموت والأشواق للميت
أضع نفسي مكان البطلة أو البطل
وأدخل في صراع كبير
وكأني كبرت فجأة وكل شيء حولي تغيّر
تمر الأيام ولا نشعر بها
نحن نكبر جسدياً،، لكن قلبنا ما زال طفلاً رضيعاً :(
الأخت العزيزة/ أم سما..
ReplyDeleteوعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
فعلا كما قلت: "تمر الأيام ولا نشعر بها"، والحقيقة أنني ربما كتبت هذه القصة تأثرا بمضي عشرين عاما على فراق أستاذي المغربي الذي أشرت إليه في التدوينة الماضية، وكأنني تركته فقط بالأمس!
كم هي سريعة الأيام، وغدا قد أكون أو قد يكون أيا منا في نفس موقف هذه السيدة بطلة هذه القصة.
تقبلي تحياتي..
قصة معبرة ومؤثرة أخي بهاء
ReplyDeleteمعدن غال و نادر معدن تلك المرأة ...و مع مثلها يصبح الفراق صعبا جدا...لكنه القدر
تحياتي
أخي الفاضل/ محمد أبو عز الدين...
ReplyDeleteجزاك الله خيرا على كلماتك الطيبة.
لا يشعر بألم الفراق حقا إلا كل أصيل.
تقبل تحياتي..
أخي وأستاذي الغالي بهاء
ReplyDeleteدوماً تثبت لي بأصالة معدنك ووفاء طبعك
بل أنا من أشتاق لإبداعاتك ومغامراتك الرائعة وللأسف أني غبت عن التدوين بشكل عام
لكن يبقى هناك أناس صادقون لا ننساهم أبداً
أما هذه القصة فقد أبدعت وتجاوزت حدود الروعة والجمال في السرد والأسلوب والفكرة
بارك الله فيك اخي الغالي
أخي الحبيب/ سعد الحربي..
ReplyDeleteأشتاق دوما لزيارتك هنا وأترقبها.
جزاك الله خيرا على كلماتك الطيبة، ويسعدني أن محاولتي هذه المرة قد لاقت استحسانك.
تقبل تحياتي..
أوااه !
ReplyDeleteحقًا هذا مؤلم جدًا ..
قصة جميلة أخي بهاء :
يبدو أنّك تحاولُ الوصولَ إلى مستوًى أعلى منا في المنطقة :)
بانتظار المزيد !
تحيآاتي لكْ ..
الأخت الغالية/ دعاء...
ReplyDeleteأعتذر إن سببت لك ألما، ولكن هذا يعني أنها جاءت صادقة !!!
جزاك الله خيرا على كلماتك الطيبة، وطبعا المنطقة منطقتكم أنتم وإنما أنا هاوٍ فقط فأين أنا من المحترفين؟
تقبلي تحياتي..