قطعت الشمس شوطا كبيرا حتى وصلت إلى تلك النقطة، إنها على موعد مع مصيرها الأزلي الذي تبلغه كل يوم منذ أن خلق الله الأرض وما عليها، البشر يسمونها لحظة الغروب.
لم تتأخر الطيور في السماء كثيرا كي تنهي هي الأخرى رحلتها اليومية سعيا في طلب الرزق، وها هي اليوم تعود كعادتها إلى أحضان تلك الشجرة قبل الغروب مباشرة، بدأت تطوف حول الشجرة في حركة إهليلجية بمنتهى البراعة، فلا هي تصطدم ببعضها ولا هي اصطدمت بالشجرة عند اقترابها منها.
لكن شيئا ما كان مختلفا في هذا اليوم، لقد بدأ تساقط ورق الشجرة مع حلول شهر الخريف.
بدت شاحبة ومرهقة وهي تجلس تحت تلك الشجرة، كانت تتابع حركة الشمس باتجاه مغربها وسرب الطيور قبل أن يستقر على الشجرة، التقطت أناملها الصغيرة عودا خشبيا وبدأت ترسم على الأرض خطوطا ودوائر متشابكة بدون معنى، ثم توقفت فجأة حينما لاحظت أن تلك الخطوط والدوائر قد طمست ملامحها عندما ابتلت رمال الأرض بما ذرفته من دموع ساخنة، وبما سقط عليها من بعض ورقات تلك الشجرة.
"كم أنت قاسية أيتها الشجرة؟ حتى الطيور لم تتركي لهم فرصة لكي يأمنوا ويأنسوا وهم يبيتون ليلتهم على أغصانك، فأبيت إلا أن تتخففي من بعض أحمالك، تاركة هذه الطيور بدون ستر حقيقي، وبلا دفء في ليلة خريفية موحشة!"
كانت هذه الكلمات تدور في مخيلتها وهي تحاول أن تمسح بقايا الدموع التي ما زالت تشق طريقها على وجنتيها الناعمتين.
منذ بضع ساعات فقط كانت هذه الصبية جزءا من بيت جميل وأسرة رائعة، أب وأم وإخوة، أقاموا منذ فترة في كوخ خشبي صغير أقامه والدهم ليأويهم تحت أغصان تلك الشجرة، كانت شجرة كبيرة جدا، متشعبة الفروع ومتشابكة الأغصان، ظن الأب أنها ستحميه وأسرته وتأويهم من المبيت على أرصفة الطرقات وسط زحام المدينة وقسوة الحياة، فبنى كوخه الخشبي هنا وحمل أسرته ليقيموا فيه منذ بضع سنوات.
وفي صباح هذا اليوم، سقط أحد جذوع هذه الشجرة فجأة لسبب غير معلوم، سقط تماما على سقف الكوخ الخشبي الذي كان تحته، ليسقط السقف بدوره على من كان بالمنزل، وهم جميع الأسرة باستثناء تلك الصبية!
لم يكن السقف ولا الجذع ثقيلين للدرجة التي تكفي لتنتزع الحياة من أجساد سكان الكوخ، ولكنها إرادة الله، فقد تتعدد الأسباب تافهة كانت أم عظيمة والموت واحد، وهذه المرة كان الموت من نصيب الجميع.
أما تلك الصبية، فقد كانت تلهو مع بعض أترابها بجوار تلك الشجرة، أصابتها الصدمة حينما حدث ذلك الحادث الذي سلب منها كل أسرتها في طرفة عين، وبينما كان بعض الجيران يحاولون التعامل مع الكارثة وسط دوي سيارات الإسعاف، كانت صبيتنا تودع المكان لتجلس بمفردها، وبعد أن انتهى كل شيء، عادت لتجلس تحت الشجرة.
والآن عليها أن تبحث عن مكان يأويها، مكان تبيت فيه، بعض الجيران حاول أن يحملها معه إلى بيته ليضمها إلى أطفاله.
كان هناك حنين لا تستطيع أن تصده، حنين مقدس، لا تجرؤ على انتزاعه من قلبها نحو تلك الشجرة، إنها تحبها، فهي التي عاشت تحتها أحلى ايامها، تحتها لعبت مع أترابها واختفت خلفها من أمها، إنها ليست مجرد مجموعة من الأخشاب العتيقة، إنها أكبر بكثير من مجرد شجرة!
تحب تلك الطيور التي تأوي إليها كل يوم، تعشق مشهد الشمس وهي تغرق في الأفق قبل الغروب، إنها تحب الشجرة، حتى بعد أن قتلت أسرتها.
إنه الحب إذا بلغ منتهاه، صار تقديسًا!
احتضنت الشجرة بيديها الصغيرتين، كادت أن تختنق من شدة الاحتضان! بالطبع فإن الشجرة لا تختنق أبدا، لكن الصبية هي التي كادت أن تختنق.
لقد صارت تلك الشجرة مقدسة بالنسبة لها، مهما فعلت بها، فلن تتغير مشاعر تلك الصبية تجاهها، حتى لو اقتلعت تلك الشجرة من حياتها أعز ما تملك.
حتى لو اقتلعت حياتها...
واختفت خلفها من أمها، إنها ليست مجرد مجموعة من الأخشاب العتيقة، إنها أكبر بكثير من مجرد شجرة!
ReplyDeleteاحيانا يربطنا شىء خاص بالمكان شىء لايستطيع ترجمته سوى عيوننا وعقولنا نحن وفلسفتنا التى لن يفهمها الا من عاشرنا وعايشنا
لقد جربت ألم الارتحال مع العائلة من بيت لأخر ورغم انه كان لمكان اجمل واكبر الا انه ظل هناك شىء يربطنى الى الان بالماضى شىء قد ( طبع ) فى أرواحنا كالبصمة لا يستطيع احد انتزاعه او تبديله
عشق المكان وارتباطنا به رغم الأوجاع شعور له اسباب خفية وغريبة لكن يظل له مذاق خاص فريد
تحياتى لك اخى بهاء اليوم البوست له احساس مختلف :)
دمت بخير
إن الشجرة الأم .. وأن الجذع الأب .. والكل يجني الثمار!!
ReplyDeleteجميل الاسقاط يا عزيزي
ReplyDeleteو السرد في منتهى الابداع و اختيارك للكلمات موفق
اعجبتني جدا
اعتقد انك تقصد بالشجرة المجلس العسكري
قصّة جميلة ..
ReplyDeleteبالفعل يظل لدينا حنينٌ إلى مكانٍ ما ،
و حبٌ له ،
" ما الحب إلا للحبيب الأول " !
نخطط حاليا للانتقال إلى منزلنا لأنه أصبح أصغر من أن يأوينا،
لكنني أحيانًا أفكر في أنني رغم كل شيء ،
أحبُّ بيتي هذا ،
و سيبقى لديَّ تعلُّقٌ بالخطوطِ الرصاصية المنقوشة على جدرانه ،
و ما علقته عليه ،
و بكل ذكرياتي معه ،
ححتى القاسية منها..
أخافُ أن تكونَ الفتاة قد ماتت بالفعل كمدًا !!
هل فعلت ؟
أم أنني أتصورها فقط كذلك ؟؟
على كلٍ قصّة مؤثرة بصراحة ،
أخذت أتخيلها و هي ترسم الدوائر و تبكي و !
..
آسفة لأنني لا أتابع كثيرًا كثيرًا ،
فالتقويم سبب لي مشاكل كثيرة !!
دمتَ بخير ..
تحيآاتي لكْ ..
الأخت الفاضلة/ أم هريرة...
ReplyDelete"احيانا يربطنا شىء خاص بالمكان شىء لايستطيع ترجمته سوى عيوننا وعقولنا نحن وفلسفتنا التى لن يفهمها الا من عاشرنا وعايشنا"
كذلك الحال بالنسبة لبعض الأماكن.... والأشخاص!
تقبلي تحياتي...
الأخت الكريمة/ كريمة سندي...
ReplyDeleteأهلا وسهلا بك أختي الفاضلة في زيارتك وتعليقك الأول هنا في "نبضات"
معك كل الحق في عبارتك: "الكل يجني الثمار"
تقبلي تحياتي...
أخي وحبيبي/ مصطفى سيف الدين..
ReplyDeleteأخجلتم تواضعنا، فما أنا إلا تلميذ لقلمك المبدع!
أما موضوع الإسقاط وما أقصده بالشجرة، فأترك لكل قارئ حرية اختيار ما يشاء من إسقاطات... أظن أن ذلك سيكون أجمل!
تقبل خالص تحياتي...
أختي الصغرى/ دعاء...
ReplyDelete"بالفعل يظل لدينا حنينٌ إلى مكانٍ ما"
بالفعل هو كذلك، وأحيانا يجبرنا الحب على التنازل، وقد يكون طريقنا الوحيد... نحو الهلاك!
تقبلي تحياتي...
قصه رائعة
ReplyDeleteفرغم انشغالي الشديد لم أستطع أن أقف في منتصف القصه لأكملها لاحقا .. فقد جذبني أسلوبك من العنوان إلى أخر حرف في القصه
وأكثر ما أعجبني هو أنك تركت للقارئ الحريه المطلقه في ربط القصه بحياتك .. فلكل إنسان تجاربه التي يبني عليها معتقداته وتفكيره
فشكرا لك
اخي باها :جميلة ورائعة لغة و اسلوباو معنى
ReplyDeleteتحياتي
الأخت الغالية/ نبض الأمل...
ReplyDeleteجزاك الله خيرا على كلماتك الطيبة..
أسعدني جدا أن القصة أعجبتك.
تقبلي خالص مودتي واحترامي..
أخي العزيز/ محمد أبو عز الدين..
ReplyDeleteجزاك الله خيرا..
تقبل تحياتي..
Dank den Themen .... Ich hoffe, mehr von den Themen
ReplyDeleteحقيقه اسلوب رائع وتشبيه في قمه الروعه
ReplyDelete